هل فكّرت يومًا في الأمور البديهية التي تفعلها في يومك وركّزت فيها؟ كأن تبتسم، تمشي، تقف، تجلس؟ هل انتبهت إلى أن جسدك لا يتحرك فحسب… بل يتحمّل أيضًا؟ يتطبع، يكتم، يستجيب، ويتشكل؟
كيف تطبع جسدك بالمكان الذي تعيش فيه، وأصبح جزءًا من قوانينه؟ كل حركة نقوم بها، مهما بدت بسيطة، ليست محايدة. فالمشي مثلًا: ليس مجرد وسيلة للتنقل، بل ممارسة يومية نُعيد من خلالها إنتاج أو مقاومة النظام الاجتماعي. وهنا يظهر مفهوم الـ Bodily Praxis، أو محور الجسد، الذي تحدّث عنه مفكرون مثل فوكو، وبتلر، وبورديو.
أنا وكل نساء عائلتي — من خالاتي وبنات خالاتي، وأمي، وأخواتي البنات، وأنا — (12 سيدة)، نعاني من تآكل في الغضاريف، والتهاب في العمود الفقري، والديسك، في سن صغيرة، 21 عامًا. بالنسبة لي، لم يكن من الطبيعي أن نُصاب جميعًا بنفس المرض، خاصةً أنه ليس من الأمراض المعروفة بانتقالها جينيًا. فليس هو روماتويد، ولا انحراف في شكل العمود نفسه، بل تراكم حدث على مدار السنين.
في البداية، ظننت أنها ربما تجربة فردية وبالصدفة منتشرة فقط في عائلتنا.
وجدت نفسي في تجربة الكاتبة دينا محمد، التي تحكي عن ألم مزمن في ظهرها بدأ في سن السادسة والعشرين، واكتشفت أن ما تعانيه ليس مجرد مرض عضوي، بل انعكاس لتاريخ طويل من المشي ”الخطأ“ — أو بالأدق: المشي ”الوقائي“، المشي الذي يتشكل نتيجة الخوف، والحذر، وتكييف الجسد مع محيط غير آمن.
دينا تعيد تعلّم المشي من جديد في أمستردام، خطوة بخطوة، بتوجيه من المعالجة الفيزيائية التي تقول لها: ”لا تستخدمي يدك للتوازن، ثقي بعضلاتك.“
هذه الجملة أثارتني… هل فعلاً لم أعد أثق في عضلاتي؟ في جسدي؟ متى فقدت تلك الثقة؟
تحكي أيضًا أن حركتنا الطبيعية — كحركة الحوض التي تقوي عضلات أسفل الظهر — غالبًا ما نقمعها منذ الصغر، خشية أن نتهم بأننا ”نُغري“ أو ”نلفت النظر“. فتبدأ أجسادنا بالتأقلم… ولكن بشكل مؤلم.
الرأس للأسفل، المشية السريعة، الكتفين المضمومين… كل ذلك ”تكتيك بقاء“، يبدو عاديًا، لكنه في حقيقته أرشيف خوفٍ متخزّن في الجسد.
هذا ليس مجرد كلام إنشائي، بل فيزياء يومية. كما تتذكر دينا طفولتها، حين كانت تتنقل بين بلاط الحارة الغارق بالمجاري، تحسب خطواتها كي لا تقع — هذا المشهد البسيط، في حقيقته، ”رقصة بقاء“، تشكّل عضلاتنا ووضعيتنا إلى الأبد.
الجسد ليس كيانًا صامتًا، بل وسيلة للتعبير، وساحة للصراع، ومساحة للحضور أو الغياب.
الهابيتوس، أو العادات الجسدية المتوارثة، تتكوّن عبر سنوات من التكيّف مع أنظمة اجتماعية تتحكم حتى في أبسط تفاصيلنا: كيف نمشي في الشارع، كيف نعدّل وقفتنا عندما ينظر إلينا أحد، كيف نُخفي، نختفي، نتماهى. وهي ليست نتيجة لاختيارات فردية، بل انعكاس لقمعٍ متراكمٍ مرتبط بالنوع، والطبقة، والرقابة.
وضعية الجسد في لحظة الامتياز ليست مجرد وقفة مريحة أو مشية واثقة، بل وقفة لا تحتاج إلى تبرير. فيها جسد غير خائف، يمشي في الشارع من دون أن يحسب خطواته أو يضبط نفسه كي لا يُوصَف بأنه ”استفزازي“ أو ”متاح“.
في المقابل، هناك أجساد تتعلم أن تمشي وكأنها تعتذر عن وجودها، كجسد المرأة الذي يمشي بخطوات سريعة، رأسها للأسفل، وعضلاتها مشدودة. وما يبدو ”عاديًا“ هو في الحقيقة تكيّف دائم مع الخوف، والخطر يكمن في أن يتحوّل هذا التكيّف إلى ”عادي“ متخزّن في الجسد، حتى في الأماكن ”الآمنة“.
ومن هنا، فإن فكرة ”إعادة تعلم المشي“ ليست مجرد مسألة طبية، بل دعوةٌ للولادة من جديد، نوع من المقاومة الهادئة، التي تتحوّل فيها أبسط الأفعال — كالمشي البطيء، رفع الرأس، النظرة الحرة — إلى فعلٍ سياسي، مواجهة، وإثبات وجود: ”أنا هنا، بجسدي، في هذا الشارع.“
فالمشي قد يكون تدريبًا يوميًا على التحرر، ليس بالضرورة أن يكون صاخبًا، لكنه يبدأ من قرارات جسدية صغيرة جدًا: أن لا تعتذر عن وجودك، أن تتوقف عن مراقبة نفسك بعين الآخر، وأن تسمح لجسدك أن يستريح، أن يتنفس، وأن يُزيح عن كاهله خوفًا لم يكن من طبعه.
لأن في النهاية، الجسد يفكر، ويفهم، ويتذكّر.
مقال دينا محمد من هنا.