منذ سنوات، كنت أظن أن النرجسية عيب واضح. صفة لا يخطئها النظر، ولا يحتمل المرء البقاء بجوارها طويلًا. صورة رجل يتحدث بثقة مفرطة عن نجاحه، أو امرأة تتزيّن بإعجابها بذاتها، ولا ترى سواها في المرآة.
لكن شيئًا فشيئًا، بدأت ألاحظ نبرة صغيرة في داخلي، تطلب الإعجاب. حركة خفية في جملتي، توجّه السرد نحوي. سؤال غير منطوق: هل رأيتم كم أنا جيد؟ ثم بدأت أشك.
من السهل أن نرسم النرجسية على هيئة غرور. لكن علم النفس يقول إن النرجسية أكثر تعقيدًا من ذلك. دراسة منشورة في Frontiers in Psychology (2021) أوضحت أن الأشخاص ذوي السمات النرجسية لا يعانون فقط من تضخّم الأنا، بل من هشاشة خفية في شعورهم بذواتهم.
حين يكون شعورك بالقيمة معتمدًا كليًا على نظرة الآخرين، فإنك لا تعيش، بل تُعرض نفسك. وحين يتقلّب الإعجاب من حولك، يتقلّب مزاجك، احترامك لذاتك، وحتى إحساسك بالهوية.
والمفارقة أن النرجسية قد لا تبدو دائمًا نرجسية. أحيانًا تتخفى في هيئة طموح أو كاريزما. بل قد تكون مقنعة ومحبوبة في بدايتها. فالنرجسي، بحسب دراسة منشورة في Personality and Social Psychology Bulletin (2010)، يُنظر إليه اجتماعيًا كشخص مميز في أول لقاء، لكنه يبدأ في فقدان رصيده مع الوقت، حين تظهر سمات الغطرسة، الحساسية للنقد، وانعدام القدرة على التعاطف.
حين قرأت هذا، شعرت بشيء من الارتباك. هل النرجسي… هو أنا؟
هل كل تلك اللحظات التي شعرت فيها بالحاجة للمديح، أو بالغضب لأن أحدًا لم يلاحظ إنجازي، كانت إشارات؟ هل رغبتي في الظهور، أو سعيي الحثيث إلى أن أبدو ”ذكيًا“، لم تكن مجرد حرص على الجودة… بل على الصورة؟ وجدت نفسي أعود إلى الطفولة. ليس لجلد الذات، بل لفهمها.
في دراسة نُشرت عام 2015، وجد الباحث برايد وآخرون أن النرجسية تنمو غالبًا عندما يُربّى الطفل على فكرة أنه ”مميز بطريقة غير مشروطة“، لكن دون أن يُمنح تعاطفًا كافيًا، أو يُساعد على تقبّل ذاته في حالاته العادية أو الفاشلة. ما ينتج هو شخص يُحاول أن يطير طول الوقت، لأنه لا يعرف كيف يمشي دون أن يسقط.
المؤلم في النرجسية أنها، من الداخل، ليست كبرياءً بل خوف. خوف من أن لا تكون محبوبًا إلا حين تكون لامعًا. خوف من السكون، لأن الظهور وحده يمنح الأمان. خوف من أن يراك الناس كما ترى نفسك حين تنهار.
لكن هناك فرق بين أن ترى هذه السمات في داخلك، وأن تتحوّل إلى رهينة لها. وهنا تأتي المسافة الحرجة: أن تتعرف على نفسك دون أن تكرهها.
أن تقول: نعم، أنا أُحب الإعجاب. أُتقن الظهور. أرتب كلماتي بعناية لأبدو مثيرًا للإعجاب. لكنني أتعلم أيضًا أن أكون صامتًا دون قلق. أن أكتب دون حاجة للتصفيق. أن أساعد دون انتظار مقابل.
الكاتب كريغ مالكين يقترح في كتابه Rethinking Narcissism (2015) أن النرجسية ليست شرًا مطلقًا، بل طيف. على أحد طرفيه نرجسية صحية تمنح الإنسان ثقة ووضوحًا، وعلى الطرف الآخر اضطراب يفصله عن العالم. ما نحتاجه ليس القضاء على النرجسية، بل تهذيبها: أن تكون لنا علاقة صادقة مع أنفسنا، تسمح بالخطأ، وتستغني عن قناع الكمال.
الوعي ليس علاجًا نهائيًا، لكنه الخطوة الأولى. أن تلاحظ متى ترفع صوتك دون داع. متى تُقاطع لتُظهر فهمك.
متى تنتظر المديح أكثر مما تنصت. ثم تعود خطوة للوراء، وتقول: لا بأس. أنا أفعل هذا أحيانًا. لكنه لا يُعرّفني.
النرجسي الذي هو أنا ليس سجينًا ولا شيطانًا. إنه جزء مني يريد أن يُحبّ، أن يُرى، أن يُحترم. وإن كنت أريد حقًا أن أشفى، فعليّ أن أنظر إليه بلطف، لا بسخرية.
أن أُدلّله قليلًا، ثم أطلب منه أن يجلس في الخلف، لأنني من سيقود هذه المرة، لا صورتي.