⁠العاشرة مساءً
٥٧٨ كلمة

حين نقول عن شخص إنه ”برنس“، فنحن لا نصف ملابسه ولا ثروته، بل نلتقط إحساسًا معقّدًا يصعب ترجمته: الراحة في حضوره، الثقة في تصرفه، والمقدرة على جعل الموقف أفضل مما كان دون أن يبدو أنه بذل جهدًا لذلك.

هذا المعنى، الذي نصوغه اليوم بلهجة مصرية، له امتداد طويل في تاريخ البشر. ففي كل ثقافة، كان هناك مفهوم للشخص الذي ”يعرف كيف يتصرّف“. اليونان القدماء سمّوه phronesis – الحكمة العملية أو ”الفطنة“ في اتخاذ القرار. اليابانيون عبّروا عنه في روح الوا (和) – الانسجام الذي يحفظ العلاقات. وفي الفروسية الأوروبية في العصور الوسطى، تجسّد في كود الشرف الذي يجمع بين الشجاعة والرقة في التعامل.

في مصر، تبلورت الفكرة في مزيج من الكياسة والكرم وحفظ المقامات، حتى لو كان الفرق الطبقي أو الثقافي واسعًا. ”البرنس“ هنا ليس سيدًا ولا وصيًا، بل شخصًا يفهم قواعد اللعب الاجتماعي ويحترمها دون أن يحوّلها إلى استعراض.

علم النفس الاجتماعي يفسّر هذه الظاهرة عبر مفهوم ”الكفاءة الاجتماعية“ (Social Competence)، وهي ليست مجرد معرفة القواعد، بل القدرة على تطبيقها في السياق المناسب، مع تعديل السلوك وفقًا لإشارات الآخرين. دراسة منشورة في Journal of Nonverbal Behaviorتشير إلى أن أكثر الأشخاص تأثيرًا في بيئات العمل هم من يجمعون بين الإدراك الاجتماعي (قراءة لغة الجسد، فهم المزاج العام) والتنظيم الذاتي (التحكم في ردود أفعالهم بما يخدم اللحظة).

أي أن ”البرنس“ لا يتصرّف بدافع الانفعال، بل يعرف متى يتكلم ومتى يكتفي بالنظرة أو الإيماءة. وإذا أردنا استعارة تعبير من الفلسفة الصينية، فهو يتحرك وفق wu wei – ”الفعل بلا إكراه“: تدخل في الوقت المناسب، وتنسحب في الوقت المناسب.

الجاحظ، في ”البيان والتبيين“، يصف ”المروءة“ بأنها ليست مجرد كرم أو شجاعة، بل ”حسن التصرف في المخالطة“، أي ألا يخرج من فمك أو يديك ما يجرح الآخر، وألا تدع أحدًا يخرج من مجلسك وفي نفسه عليك شيء. هذه المروءة هي الجد الأكبر لفكرة ”البرنس“.

لكن ما الذي يجعل هذه الصفات اليوم عملة اجتماعية نادرة؟ جزء من الإجابة في تغيّر طبيعة التفاعل الإنساني. مع تسارع الحياة، وتزايد التواصل الافتراضي، تقلصت مساحات الملاحظة الصامتة التي كانت تمنح الناس فرصة لتعلّم الذوقيات ضمنيًا. صار كثيرون يتحدثون أكثر مما ينصتون، يعطون النصيحة قبل أن يفهموا القصة، ويظنون أن اللباقة هي سلسلة من ”التكنيكات“ المحفوظة.

البرنس، على العكس، يعرف أن الذوق ليس نصًا مكتوبًا بل موقف متجدد. لا يرد على رسالة غاضبة فورًا، بل ينتظر حتى يكتب ما يحفظ ماء الوجه للطرفين. لا يستغل ضعف أحدهم في لحظة، بل يغطيه دون أن يلمّح لاحقًا إلى أنه فعل ذلك. هذه القدرة على حماية كرامة الآخر هي، في علم الاجتماع، ما يسمّى بـ ”إدارة الواجهة“ (Facework) كما وصفها إرفنغ غوفمان: كل تفاعل بشري هو عرض مسرحي، والبرنس هو الممثل الذي لا يقطع المشهد، بل ينقذه إذا تعثّر.

كيف تترجم هذا في حياتك اليومية؟

  • الملاحظة قبل التدخل: اجلس في مجلس، لاحظ من يتحدث ومن يستمع، ثم اختر توقيت دخولك للحوار بحيث تضيف لا أن تكرر.

  • حماية الضعف: إذا لاحظت أن شخصًا ارتكب خطأ في العلن، صححه في السر.

  • الكرم في التفاصيل: أشكر سائق التاكسي بالاسم، اذكر فضل زميلك أمام الآخرين، اترك المقعد لكبير السن دون استعراض.

  • ضبط النبرة: في الخلافات، خاطب الفكرة لا الشخص.

هذه ليست قواعد معزولة، بل تمارين يومية على حضورك الذهني والعاطفي معًا.

في النهاية، أن تكون ”برنسًا“ هو أن تجمع بين أمرين: حس تاريخي بمعنى المروءة والكياسة، ووعي معاصر بديناميكيات العلاقات اليوم. هو أن تكون حاضرًا في المشهد دون أن تسرق الضوء، وأن تترك وراءك إحساسًا بأنك لم تكن مجرد شخص مرّ، بل شخص جعل اللحظة أفضل قليلًا.

البرنس، في العمق، ليس لقبًا ولا صورة، بل فن أن تعيش وسط الناس دون أن تثقل عليهم، وأن تحمل نفسك والآخرين بكرامة واحدة.

شارك هذا الـمقال