⁠العاشرة مساءً
٦٩٩ كلمة

كان الجميع يضحك. أطباق الحلوى تدور، الأطفال يركضون، والضحكات ترتفع دون سبب واضح. جلست على الكرسي القريب من الباب، أحرّك هاتفي بلا هدف، وأتظاهر بأنني مشغول. لم يكن في قلبي كراهية لأحد، ولا رغبة في العزلة، فقط… لم أكن مستعدًا لهذا القدر من الحضور دفعة واحدة.

المناسبات الاجتماعية، خصوصًا في ثقافاتنا، لا تأتي خفيفة. زفاف، عزاء، خطوبة، زيارة عائلية، احتفال عمل… كلها مناسبات تُحمَّل بما هو أكثر من المطلوب منها. فيها أداء، وترقّب، وذوقيات غير مكتوبة، وخوف دفين من أن تُفسَّر تصرفاتك بطريقة خاطئة.

علم النفس الاجتماعي يشير إلى أن البشر يملكون ما يُعرف بـ ”مستويات متفاوتة من الطاقة الاجتماعية“. بعض الناس يعيدون شحن هذه الطاقة بالاختلاط، بينما البعض الآخر تُستنزف طاقتهم في كل حوار صغير. هذه ليست مشكلة في شخصيات أي من هذين النوعين، بل هي نمط عصبي. الانطواء أو الحساسية الزائدة للضجيج والتفاعل، أمور لها جذور بيولوجية، لا مجرد سمات اجتماعية.

الباحثة Susan Cain في كتابها Quiet، تشير إلى أن الضغط النفسي الناتج عن المشاركة الاجتماعية القسرية هو من أكثر مصادر التوتر التي لا يُعترف بها. لأن المجتمع يكافئ الشخصية المنفتحة، ولا يتفهم صمت من يحضر لكنه لا يتفاعل بما يكفي.

في كثير من المناسبات، لا نكون بحاجة إلى عزلة، بل إلى نوع من الحضور المخفف. أن نكون موجودين دون أن نُستنزف، أن نؤدي واجب الظهور دون أن نتنكر لأنفسنا.

ولأجل ذلك، إليك بعض القواعد البسيطة التي تساعدك على الحضور دون أن تتكسر، ودون أن تبالغ في التمثيل:

  • لا تدخل المكان بلا خطة انسحاب. أن تعرف مسبقًا أنك ستغادر بعد ساعة، يمنحك حرية داخلية أكبر. حضورك ليس التزامًا حتى الإرهاق. أبلغ المضيف قبل المناسبة أنك ستكون هناك لفترة محددة، ليس من باب قلة الاحترام، بل من باب احترام حدودك.

  • اختر شخصًا واحدًا فقط للحديث. لا تحاول توزيع نفسك على الجميع. حوار حقيقي مع شخص واحد أفضل من مجاملة عشرين وجهًا. إذا وجدت شخصًا ترتاح له، ابقَ بقربه. الحضور لا يعني أن تتحرك كثيرًا.

  • خذ استراحة ذهنية. ادخل الحمام، قف على الشرفة، ابحث عن لحظة صمت مؤقت. عقلك يحتاج إلى مساحة للتنفّس وسط الزحام. خصص وقتًا تنسحب فيه مؤقتًا، دون أن تشعر بالذنب.

  • لا تشعر بالذنب إذا كنت صامتًا. وجودك في ذاته شكل من أشكال التقدير. لا تُجبر نفسك على الحديث المستمر كي لا تبدو غريبًا. كثير من الناس يشعرون بالارتياح بجوار من لا يملأ الصمت بكلمات جوفاء.

  • احمل شيئًا بيدك. كوب، طبق، حقيبة. أحيانًا، مجرد أن تمسك شيئًا يمنحك شعورًا بالاستقرار وسط الحركة. هذا يساعد على تقليل توترك ويوفّر مبررًا بصريًا لصمتك.

  • اعرف لماذا أتيت. هل لتلبية دعوة؟ لمشاركة لحظة؟ لمجاملة ضرورية؟ تذكّر السبب يبقيك حاضرًا دون تشتت. وكلما وضحت النية، خف الضغط.

  • أعطِ نفسك دورًا في الحدث. ساعد في ترتيب الكراسي، أو تنظيم الصف، أو تقديم الضيافة. هذا يُشعرك بالانخراط دون أن تُجبر على التواصل اللفظي المتكرر.

  • حافظ على مساحة شخصية مريحة. لا تقف في وسط الحلقة، ولا تجلس بجوار الأكثر صخبًا، ولا تجلس أمام باب مغلق. ابحث عن زاوية تسمح لك برؤية الآخرين دون أن تكون مركزهم.

  • تعلّم فن الردود القصيرة اللطيفة. لا حاجة لأن تسرد حكاية حياتك في كل محادثة. جملة مثل ”الحمد لله، الأمور بخير“ تكفي أحيانًا. البساطة ليست ضعفًا، بل اقتصاد في الطاقة.

  • درب نفسك على توقع بعض الأسئلة المزعجة: ”ليه ساكت؟ مش هترتبط؟ هتسافر إمتى؟“… وامنح نفسك حرية عدم الإجابة. الرد ليس التزامًا.

  • غيّر مكانك مرة خلال المناسبة. الحركة الصغيرة تُنعش الحضور. لا تبقَ جالسًا في نفس المقعد طوال الوقت، ولو بخطوة بسيطة.

  • أما إن احتجت إلى محادثة صغيرة، فابدأ بسؤال بسيط غير شخصي: ”إيه رأيك في المكان؟“ أو ”بتحب النوع ده من الموسيقى؟“. المحادثات الصغيرة لا تحتاج إلى عمق، بل إلى إيقاع بسيط ولطيف. اسأل، استمع، ثم اسمح للحديث أن ينتهي دون قلق.

  • أما المجاملات، فحافظ على الصدق والاختصار. لا تُثنِ على شيء لا يعجبك، ولا تبالغ في الثناء. قل: ”مبروك، شكلك سعيد النهاردة“ أو ”البدلة لايقة عليك“ ثم تابع طريقك. المجاملة القصيرة واللطيفة تؤدي الغرض، دون أن تُثقلك.

وأخيرًا، لا تقارن طاقتك بطاقات الآخرين. لا تنظر لمن يضحك بصوت عالٍ أو يسرد النكات كأنك ناقص. لكلٍ طريقته في الوجود، وأنت لا تحتاج أن تتقمص غيرك لتكون مقبولًا.

المناسبات الاجتماعية ليست اختبارًا. هي، في أفضل حالاتها، فرص للوصل الخفيف، للوجود الرمزي، لتأكيد العلاقات. وإن لم تستطع أن تكون نجم الطاولة، يكفي أن تكون فيها — على طريقتك.

لا بأس أن تميل إلى العزلة. ولا بأس أن تحضر. ولا بأس أن تحضر وتبقى صامتًا. المهم ألا تغادر نفسك في الطريق.

شارك هذا الـمقال