⁠العاشرة مساءً
٤١٩ كلمة

تخيل لو ارتديت جهاز كشف الكذب طوال يومك، لا لأنك متهم، بل لأنك صادق مع نفسك حدّ الفضول. تريد فقط أن تعرف: كم مرة تُجمّل الحقيقة؟ كم مرة تُخفي؟ كم من مرة تقول شيئًا بينما تقصد شيئًا آخر؟ ليس بدافع الأذى، بل بدافع العيش، النجاة، الذوق، الحب.

مشكلة الكذب ليست في وجوده، بل في تصورنا أنه علامة الشر المطلق. بينما العلم والحياة اليومية يقولان غير ذلك: الكذب ليس دائمًا سلوكًا عدائيًا، بل أحيانًا وسيلة اجتماعية لتلطيف المواقف، لتجنّب الإحراج، وللحفاظ على علاقات هشة.

السؤال الحقيقي إذًا ليس: هل تكذب؟، بل: كم كذبة تستطيع أن تقولها دون أن تفقد نفسك؟

في دراسة طويلة المدى أجراها باحثون من جامعة ويسكونسن بقيادة تيموثي ليفين، طلبوا من مئات الأشخاص تسجيل عدد الأكاذيب التي يقولوها كل يوم، ولمدة ٩١ يومًا. النتيجة كانت مدهشة:

الإنسان العادي يكذب نحو كذبتين في اليوم.

كذبتان فقط، في الغالب صغيرة، من نوع:

  • ”أنا بخير.“

  • ”كنت مشغولًا جدًا فلم أرد.“

  • ”أعجبتني الهدية!“

وكلنا نعرف أننا لا نقصد المعنى الحرفي.

لكن المفارقة أن أغلب الناس لا يكذبون كثيرًا. ثلاثة أرباع المشاركين تقريبًا في الدراسة قالوا ما بين كذبة واحدة إلى كذبتين في اليوم، وربما أقل. أما الأكاذيب الكثيرة فكانت تأتي من فئة صغيرة فقط من الناس، مسؤولة عن معظم الأكاذيب اليومية، ويسميهم الباحثون prolific liars.

في المقابل، يُظهر بحث بيلا دي باولو الكلاسيكي أن الناس في العادة يكذبون كذبة أو اثنتين في اليوم أيضًا، لكن الغالبية منها تكون كذبًا اجتماعيًا: أي لا تُقصد به الخداع الكامل، بل تسهيل التواصل.

ما هي المشكلة إذًا؟

المشكلة تبدأ عندما نُكثّف الكذب ليصبح عادة، أو نستخدمه للتهرّب من المسؤولية، أو نُسيء به إلى الآخرين. لكن الكذبة التي تُقال لتجنّب إحراج شخص، أو لحفظ خصوصية، أو لتأجيل مواجهة لا داعي لها، ربما لا تجعل منا أشخاصًا سيئين.

ربما يكون السؤال الأهم: هل أنت قادر على تمييز السبب الذي تكذب من أجله؟

هل تكذب بدافع الخوف أم التهذيب؟ لتخفي عيبًا أم لتمنح الآخر راحة؟ لتهرب من مساءلة، أم لأن قول الحقيقة يفتح أبوابًا لا ضرورة لها الآن؟

هناك خط رفيع بين الكذب الأخلاقي والكذب الدفاعي.

الوعي بهذا الخط هو ما يصنع الفرق بين إنسان صالح، وآخر يُخفي وجهه حتى عن نفسه.

في النهاية، لا أحد يمكنه أن يعيش بلا كذب. حتى أكثر الناس صدقًا يُجمّلون، يُؤجّلون، يتلاعبون بالتفاصيل. لكن الإنسان الجيد ليس هو من لا يكذب أبدًا، بل من يعرف متى يكذب، ولماذا، وما الثمن.

والأهم من كل ذلك: أن يبقى الكذب زائرًا عابرًا، لا مقيمًا في نبرة صوتك، ولا مهنة في لسانك.

أما جهاز كشف الكذب الحقيقي؟ فربما يكون ضميرك، حين تسمع صوتك وتفكر: هل قلت هذا لأنني أُراعي الآخر… أم لأُخفي نفسي؟

شارك هذا الـمقال