جئت إلى الدنيا بعد عشر سنوات من زواج أبي وأمي، جاء أخي بعدي بأربع سنوات. كنت أخشى أن يتكرر ذلك معي، فاندفعت إلى الإنجاب بلا حسابات عملية، مدفوعًا بشيء من القلق العصابي الذي يشلّه. ما عشته كان قلقًا وجوديًا طبيعيًا، نابعًا من إدراكي لفنائي ورغبتي في ترك أثر.
الإنجاب ليس حدثًا عابرًا، بل باب واسع للأسئلة. منذ اللحظة الأولى، يفرض عليك مواجهة قضايا كنت تضعها جانبًا: علاقتك بالله وبالدين، القيم التي ستغرسها في أبنائك، موقفك من الحرية الشخصية ومن حقوق الآباء والأبناء. حتى القضايا الصغيرة، مثل: هل أفرض على ابنتي ممارسة رياضة بعينها ”لمصلحتها“؟ تصبح فجأة أسئلة ملحّة.
ثم تأتي التحديات اليومية: السهر، قلة النوم، التوتر المالي، الخلافات الزوجية، والضغط المستمر بين البيت والعمل. عالم النفس الاجتماعي روي باوميستر وجد أن الآباء والأمهات يبلّغون عن مستويات أقل من السعادة اليومية مقارنة بغيرهم، وهو ما أكدته أبحاث سونيا ليوبميركسي. لكن هؤلاء الآباء أنفسهم قالوا إن حياتهم أكثر إشباعًا بالمعنى على المدى الطويل. وكأن الإنجاب يقلل ”المتعة اللحظية“ لكنه يزيد ”الرضا الوجودي“.
هذا التناقض عشته كله. في سنوات ما قبل الأبوة كنت أقرأ ما بين 70 و80 كتابًا سنويًا. بعد الإنجاب تراجع الرقم إلى كتابين فقط. حياتي اليومية صارت أقل متعة، لكنني اكتشفت أنني أقرأ الآن بدافع مختلف: محاولة فهم الذات ودوري كأب. رحلة بدأت بالسؤال: كيف أكون أبًا جيدًا؟ وانتهت بانشغال أوسع بعلم النفس.
من هنا دخلت إلى علم نفس المعاملات (Transactional Analysis) الذي أسسه الطبيب الكندي إريك بيرن. يرى بيرن أن في داخل كل منا ثلاث حالات أو ”أصوات“:
-
الوالد، الذي يحمل القيم والرسائل الموروثة.
-
الراشد، الذي يفكر بعقلانية.
-
الطفل، حيث العفوية والخيال والمخاوف.
تأملت نفسي، وجدت أن ”الوالد“ داخلي كان ضعيفًا. لم أتلقَّ من أبي وأمي دائمًا تعليمات واضحة عن كيف أعيش أو كيف أربي. بحثت في الكتب عن ”أب بديل“، وكنت أقوّي في داخلي صوت ”الراشد“.
لكن حين واجهت قرار الإنجاب، ظهر ”الطفل“ داخلي قويًا: خائفًا من مرور الزمن بلا أبناء، متعجّلًا للخبرة. ”الوالد“ كان هشًا، يردد أصوات المجتمع: ”الناس يسألون متى ستُنجب؟“ أما ”الراشد“، فكان حاضرًا، لكنه لم يكن ناضجًا بما يكفي.
اليوم، كل سؤال تطرحه ابنتي يعيدني لمواجهة هذا النقص. حين تسأل عن العدل أو الحرية أو الله أو معنى المال، أجدني مضطرًا أن أبلور لنفسي قيمًا أوضح. لم يعد ممكنًا أن أؤجل أو أتهرّب. صار عليّ أن أكون أكثر وعيًا بما أؤمن به، وأن أترك لبناتي إرثًا وجدانيًا أعمق مما تلقيت.
وهكذا لم يعد الإنجاب مجرد ”نتيجة طبيعية“ للزواج. صار رحلة لإعادة تشكيل علاقتي بنفسي وبأصواتي الداخلية. رحلة أقل متعة على المستوى اللحظي، لكنها أعمق وأكثر معنى.
بعد سنوات، وأنا أرى ابنتي تكبر، أشعر أن قرار الإنجاب لم يُتخذ مرة واحدة، بل يُتخذ من جديد كل يوم. فكل لحظة معها هي فرصة لإعادة النظر في ذاتي، وكل سؤال تطرحه هو دعوة إلى إعادة البناء. قد لا أملك تفسيرًا قاطعًا لتجربتي، لكن ما أعلمه أن الإنجاب لم يكن مجرد بداية لعائلة، بل بداية لحياة مختلفة تمامًا: حياة أقل راحة، لكنها أغنى بالمعنى.