في عزاء بعيد، جلست على كرسي في الزاوية، أراقب الوجوه التي لا أعرفها جيدًا. كان الجميع يتحرك بحذر، لا لسبب، بل لأننا لا نعرف كيف نتصرف حين يطلب منا الحزن. أحدهم صافح الجميع بوجه مغلق. آخر تمسّك بهاتفه حتى أثناء السلام. دخلت سيدة في منتصف الأربعين، بملامح شديدة الهدوء، صافحت الحضور، ووقفت قليلًا. لم تقل شيئًا خارقًا، لكنها — دون أن تنتبه — ابتسمت ابتسامة صغيرة، ساكنة، على وجهها وهي تسلّم على الأم الثكلى. لحظة عابرة، لكنها بدّلت جوّ الغرفة. ابتسامة لا تجرح، ولا تتهرب، ولا تحاول شرح شيء. فقط تقول: ”أنا معك، لا أكثر.“
منذ تلك اللحظة، بدأت ألاحظ كيف تؤثر الابتسامة في المواقف الاجتماعية التي تبدو ”غير قابلة للتخفيف“. الأماكن التي لا نعرف فيها كيف نبدأ، كيف نقف، كيف نحكي، كيف ننسحب. ومن ثم بدأت أسأل: ما الذي تفعله الابتسامة فعلًا؟ وهل يمكن أن تُستخدم كأداة واعية، لا كعادة أو ردة فعل؟
في علم النفس الاجتماعي، تُصنف الابتسامة ضمن ما يُعرف بـ ”إشارات النية“ — أي تلك التصرفات الصغيرة التي يستخدمها البشر للإشارة إلى أن حضورهم غير مهدد. وهو سلوك متجذر في التاريخ التطوري للإنسان، حيث كان كشف الأسنان في أغلب السياقات يحمل إما تهديدًا أو طمأنة — والابتسامة تطورت تحديدًا كـ ”طمأنة صامتة“ تعني: لست في خطر.
في دراسة أجراها الباحثان Kraft وPressman (2012)، طلبا من المشاركين تنفيذ مهام مرهقة بينما يُطلب منهم إما أن يحافظوا على وجه حيادي، أو أن يبتسموا (حتى إن لم يشعروا بذلك). النتيجة: الذين ابتسموا كان لديهم ضغط دم أقل، وتعافوا من التوتر أسرع.
لكن في المواقف الاجتماعية، التأثير الأهم ليس في الجسد، بل في السياق. الابتسامة — خاصة تلك الهادئة التي لا تُعلَن — تُخفف من احتمال التوتر، وتفتح مجالًا للحديث حتى في الأجواء الغريبة.
في مائدة عشاء فيها غرباء، أو اجتماع مع غرباء تربطك بهم مصلحة مؤقتة، لا أحد يعرف كيف يبدأ، ولا كيف ينتهي. وحين لا تبتسم، يبدو صمتك جديًا أكثر مما ينبغي. لكن حين تبتسم ابتسامة خفيفة — بلا مبالغة — تُعلن أنك قابل للتفاعل، دون أن تُجبر أحدًا على التقرّب.
هنا لا تكون الابتسامة مجرد ”سلوك لطيف“، بل حركة تفسح مكانًا لعلاقة محتملة. تمامًا كأنك تفتح بابًا دون أن تدعو أحدًا للدخول… لكنك لا تقف خلفه بسلاح.
أتذكر مرة في زيارة عمل رسمية، كان الفريق الذي نلتقيه شديد التحفّظ. كل شيء مرتب، كل كلمة محسوبة، كل إيماءة متأخرة. أردنا أن نكسر هذا التوتر، لكن الكلمات لم تساعد. في لحظة عفوية، علّق أحد الزملاء على لوحة على الجدار بنبرة ودودة، وابتسم ابتسامة خفيفة وهو ينظر إلى مضيفنا. رد الأخير بابتسامة أوسع، تبادلنا ضحكة قصيرة، ثم بدأ اللقاء بالفعل — لا في العرض الذي تلاه، بل في تلك اللحظة التي قال فيها الجسد: لا بأس، نحن هنا لنتفاهم، لا لنتبارز.
في نهاية العزاء الذي بدأت به، جلست بجوار السيدة نفسها. قالت لي — دون أن تعرفني — ”العزاءات ثقيلة، بس الناس لما تلاقي وش طيب، بتعرف تمشي في اليوم.“