ذات صباح وبدأت تعزف مقطوعةً على البيانو، باغتها شعورٌ –فور أن شمَّت رائحة البيانو الخشبية– كأنها سافرت عبر الزمن، وعادت تلهو إلى أشجار الجوز في حديقة والدها. هل كان البيانو مصنوعًا من أشجار الجوز؟ لا تدري، لكن ذلك لم يمنعها من أن تعود بذكرياتها إلى طفولتها، حين كانت تمشي بحذرٍ أسفل تلك الأشجار، باحثةً عن الجوز المتساقط، وكأنها الآن، وهي أمام البيانو، تلمس في يدها قشور الجوز الصلبة، وتشعر بأنها على وشك أن تكسر واحدة. ما حدث مع ناتاليا كوسيركوفا، الباحثة النرويجية المتخصصة في تعليم وتطور الأطفال، يؤكد ما يمكن أن نشعر بالدهشة منه: هناك ارتباط وثيق بين الذاكرة وحاسة الشم.
تتوالى المفاجآت التي تحكي عنها ناتاليا في مقال نُشر على موقع (Aeon)، تقول إنها وفريقها البحثي في جامعة ستافنجر بالنرويج، حاولوا البحث عن أساليب جديدة لإثراء عملية التعلّم ترتبط كلها بالروائح وحاسة الشم. كيف يمكن توظيف هذه ”الحاسة المُهمَلة“، حسب وصفها، في تعزيز انتباه الأطفال ومضاعفة استمتاعهم بالحكايات، وتحويل عملية التعلّم التي تتسم بالصرامة والقواعد إلى عمليةٍ ثريةٍ بالروائح والسفر عبر الخيال.
تُظهر الأبحاث التجريبية التي أجرتها أن الأساليب الشائعة حاليًا والمستخدمة في الكتب الرقمية والورقية، سواء الصور المتحركة أو زاهية الألوان، لا تشجع على التعلم، بل تُعيق القراءة العميقة للصغار وتجعلها شيئًا يشبه عرضًا إعلانيًا يضج بالأجراس والأصوات. أما الرائحة، وهي العنصر الذي يذهلها ويحرّك أبحاثها، فتحفّز القراءة العميقة.
ربما يُثير فيك هذا الكلام حنينًا إلى الكتب الورقية، أنك تكره القراءة على جهازك اللوحي لأنك تريد لمس الورق وشمّه. لكن يتوقف تفكيرك عما تفعله هذه الحاسة عند هذه النقطة. أجرت ناتاليا استطلاعًا شمل ألف أب وأم لتستكشف آراء الآباء عن الكتاب المثالي الذي يودون شراءه لأطفالهم. علقت الأغلبية أن أهم عنصرين هما الصور الجميلة وملمس الكتاب، ولم تدخل الرائحة مجال التفكير إلا بشكل سلبي، إذ علّق البعض أن بعض الكتب لها رائحة صناعية كريهة ينبغي التخلص منها لأنها تقف في طريق القراءة الممتعة.
لا يتوقف الأمر على الأطفال أو التعلم؛ تُظهر الدراسات التي أجريت على البالغين والحيوانات أن للروائح تأثيرًا هائلًا على إدراكنا بطرق أعقد مما نتخيل، وتثير ذكريات ومشاعر مرتبطة بالأماكن من حولنا.
تنبع العلاقة بين التعلم وحاسة الشم في الأساس من الروابط المعقدة بين الانتباه والذاكرة والشم. كيف يحدث هذا الرابط؟ تشير الدراسات إلى أن مناطق الدماغ، مثل القشرة الجبهية الحجاجية (the orbitofrontal cortex)، تتفاعل مع روائح بعينها، وتنشط حسب إن كانت الرائحة جميلة أو كريهة، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى الانتباه الحاد. لذا، فإن مشروع الباحثة ناتاليا يهدف إلى وضع إطارٍ للروابط والروائح معًا، ودمجها مع آليات التعلم (مثل التركيز أو التفاعل) ونتائج التعلم (مثل القراءة أو تعلم اللغات).
تتساءل ناتاليا: لماذا تظل عوالم الرائحة حكرًا على المتخصصين في صناعة العطور أو خبراء الشم عامةً؟ لماذا لا نفتح هذا العالم أمام الأطفال ليستكشفوه؟ ليعرفوا الروائح التي لا تُعد ولا تُحصى من حولهم ويحفظوها في ذاكرتهم ويستخدموها في إثراء أيامهم العادية؟
نستطيع، نحن البشر، تمييز تريليون رائحة فريدة وفقًا لحسابات فريق من جامعة روكفلر في نيويورك عام 2014. وبالمقارنة، تستطيع العين رؤية حوالي 100 مليون لون فحسب. أنوفنا هي ما يميزنا فعلًا؛ تنشأ حساسيتنا للروائح من وجود 400 مستقبل للرائحة في الأنف. ورغم أن بعض الأبحاث شككت في دقة هذا الرقم بالتحديد، لكنه لا ينفي روعة حاسة الشم لدينا، الحاسة التي نهملها وننساها في حياتنا أو في الطريقة التي نتعلم بها ونعلم بها أطفالنا.
إن دخلت مكتبة، فستجد أن معظم التركيز ينصب على حاستي السمع والبصر؛ الإضاءة مناسبة، والأصوات العالية ممنوعة، والكتب منسقة بشكل جمالي ومريح للعينين. تتبع الكتب النهج نفسه في تصميمها أو تركيزها على الصور ووضوح ألوانها وجاذبيتها. لا ننفي أهمية العامل البصري، لكن لماذا نرضى بعيش حياة بجودة متوسطة رغم أن جودة ثلاثية الأبعاد متاحة إن فعّلنا حاسة الشم؟
تشير دراسة ناتاليا إلى أن الرائحة يمكن أن تلعب دورًا في القراءة، خاصة حين تتعلق بتذكر التجارب الشخصية والقصص التعبيرية. أظهرت الدراسات التي أجريت على البالغين أنه عندما ينتبه القارئ إلى الروائح في الكتاب الذي يقرأه، فإن ذلك يرسم صورًا ذهنية في ذهنه، ويُفترض أن مثل هذه الصور الذهنية تُغمِس القارئ في القراءة أكثر وتُضاعف ثراء تجربته. حين أجرى الباحثون دراسة تجريبية مع البالغين باستخدام كتاب يحتوي على روائح مدمجة، أظهرت النتائج أن الروائح ساهمت في جعل القراءة أسهل وأمتع وحسّنت فهم المحتوى.
أما بالنسبة للأطفال، تنطلق الفرضية من أن إضافة المحفزات الشمية سيعزز عملية التعلم. عندما يواجه الطفل روائح غير متوقعة أثناء القراءة، قد يولد هذا مشاعر المفاجأة والفضول، مما يجذب انتباههم أكثر فيستغرقون في القراءة بيسر، وقد يشجعهم أيضًا على إيلاء اهتمام أكبر للنص، مما يؤدي إلى فهم أفضل للمعلومات.
تدور الفكرة حول تمرين حاسة الشم لدى الطفل، لأنه كما نتعلم قراءة الحروف وفهم الصور، بإمكاننا أيضًا فهم الروائح وتحليلها. كيف تمرن هذه الحاسة عند طفلك أو حتى عندك؟
-
أولًا، الأنشطة الحسية: أي تجربة تحتوي على شم عناصر مختلفة، مثل الملصقات أو أقلام التحديد ذات الروائح المميزة. لا تحفز هذه الأنشطة حاسة الشم فحسب، بل تعزز التطور المعرفي والحسي. كذلك الطبخ أو الخبز نشاط يوقظ حاسة الشم، ولا يعرّض الطفل لروائح مختلفة فحسب، بل يوفر فرصًا للتعلم العملي والاستكشاف الحسي.
-
ثانيًا، استكشاف الطبيعة: اصطحب طفلك في نزهات في الحدائق العامة أو مغامرات في الهواء الطلق، مثل حدائق الحيوانات. تُساعد هذه التجارب على اكتشاف روائح ترتبط بصور ذهنية معينة تُثري المخيلة خلال عملية القراءة والتعلم. يمكنك أيضًا دمج الروائح في اللعب، مثل لعبة الغميضة لكن بتحديد روائح معينة والبحث عنها، أو أن يحاول الطفل تحديد ماهية الأشياء وهو معصوب العينين.
ربما نصحك أحدهم وأنت تستعد لامتحان أن عليك اعتياد رائحة بعينها خلال استذكارك، ثم شمها قبل الامتحان. هذه نصيحة حقيقية، إذ تشير الأبحاث إلى أن حاسة الشم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمناطق الدماغ المسؤولة عن الذاكرة والعاطفة، مما يجعل الرائحة أداة قوية للتعلم.
حين ننشط هذه الحاسة في أطفالنا، فإننا نساعدهم على تشكيل روابط عصبية أقوى تساعدهم في معالجة المعلومات واسترجاعها. بالإضافة إلى أن دمج أساليب التعلم ذات الروائح المتنوعة في القراءة والمدرسة قد يحوّل التعلم إلى عملية جذابة وغامرة، وأبعد ما تكون عن الروتينية.