⁠العاشرة مساءً
٥١٤ كلمة

كان عقلي يدور بلا توقف وأنا في المطار متوجهًا إلى الطائرة التي تقلّني إلى بلد آخر، حتى أقابل والد الفتاة التي أحبها فأطلب يدها منه. هو اللقاء الأول بيننا، وكنت قلقًا متوترًا أراجع كل كلمة في رأسي مرتين وثلاثة حتى يهدأ بالي. لو قال كذا سأقول كيت، ولو سأل عن كذا سأجيب بكذا كذا.

لو أني أعرف كيف أقنع الآخرين بما أريد.

هو سؤال أبدي، فلا عجب أن يكون من أجاب عليه هو أرسطو بنفسه. لعل تفصيل إجابته لم يختلف كثيرًا من ساعتها وحتى وقتنا هذا. الإقناع لا يقف على المنطق فحسب وإنما على أشياء أخرى قد تكون أهم من المنطق نفسه.

ما أكثر ما نجد أنفسنا في موقفٍ نحتاج فيه إلى إقناع الآخر: رئيسٍ في العمل، صديقٍ متردّد، أو حتى طفلٍ يرفض أن يأكل طعامه.

وقد يبدو لنا أن الإقناع عملية بسيطة: قدّم أسبابك، وسيقتنع الطرف الآخر بها. لكن الواقع يخبرنا أن الحجة وحدها لا تكفي. فما هي وسائل الإقناع الأخرى في رأي أرسطو؟

مصداقية المتحدث – Ethos

هو أن يراك الآخر جديرًا بالثقة. فهو قبل أن يُصغي لكلامك ينظر إليك. لو كانت المرة الأولى التي تتحدث معه فعليك أن تقدم نفسك بما يجعل لكلامك وزنًا، إن كانت خبرة أو تعلّم أو ما يخص موضوع الكلام.

أما لو كان الآخر شخصًا تعرفه ويعرفك فعليك أن تُبدي له من نفسك الجانب الذي يتفق وما تقول. كلنا لنا جوانب عديدة من أنفسنا، تظهر وتتوارى في أحيان مختلفة. سيجد كلامك طريقه إلى سامعه لو أنك ذكّرته بالجانب الذي يليق به أن يقول ما تقول الآن.

العاطفة – Pathos

غير أن الثقة وحدها لا تحرّك القلوب. فالعقل يقتنع أو يرفض، لكن القلب هو الذي يأخذ القرار. حين تروي قصة مؤثرة، أو تمس في حديثك مشاعر الخوف أو الأمل أو الفرح، فإنك تفتح بابًا آخر إلى المستمع. صُغ ما تريد إقناع الآخر به بما يسمح له أن يتعاطف معك ويشاركك رؤية الأمور من نفس المنظور، وستكون قد قطعت نصف المسافة إليه.

المنطق – Logos

حُجة كلامك وتسلسل أفكارك بسلاسة من مقدمة واضحة إلى نتيجة مُقنعة. حين تضع الدليل في مكانه، وتقيم الروابط بين السبب والنتيجة، يجعلك تقف على أرض صلبة، ويخاطب عقل المستمع كما خاطبت قلبه. نحن نحب أن نصدّق أننا عقلانيون، وأن قراراتنا تُبنى على الأدلة والوقائع. ولهذا لا إقناع بدون منطق في النهاية.

التوقيت – Kairos

لم يزد على وسائل الإقناع التي صاغها أرسطو إلا عامل التوقيت: متى تقول ما تريد قوله؟ ليست كل اللحظات سواء، ومن تريد محادثته يتحوّل في رضاه وغضبه وصفائه وضيقه بين وقت وآخر، لكونه بشرًا. لهذا يعتبر التوقيت هو فن قراءة اللحظة: أن تعرف متى تصمت، متى تنتظر، ومتى تُطلق الحقيقة. أحيانًا يكون الصمت نصف الإقناع، لأنه يترك للآخر مساحة ينضج فيها الاستعداد لسماعك.

كل ما أتى بعد هذا من وسائل الإقناع يندرج بشكل أو آخر تحت هذه المظلات، سواء من علم النفس أو اقتصاد السلوك أو غيرهما. فأنت إما تُحدث العقل أو القلب دائمًا.

كان لقائي بوالد حبيبتي طويلًا، تحدثنا في كل شيء، وكلما فرغت قهوتي طلبت غيرها، وأنا أردد في ذهني: المصداقية، العاطفة، المنطق، التوقيت. ولما انصرفت كنت متفائلًا أدعو الله بالخير. ثم مرت الأيام وتزوجت الفتاة، وفي أحد جلسات الصفا مع والدها صارحته باعتمادي على وسائل الإقناع، فوجدته يبتسم ويهز رأسه قائلًا:

”نعم نعم… أرسطو. لماذا تظن أني وافقت عليك من البداية؟“

شارك هذا الـمقال