⁠العاشرة مساءً
٤٩٣ كلمة

يحدث أحيانًا، وسط حوارٍ عربيّ صميم، أن يتسلّل صوتٌ خفيضٌ بالإنجليزية:
“I’m tired.”
“I’m broken.”
“I miss you.”
أو ربما:
“I don’t know what I feel.”

وحين ننتبه، لا نسأل عمّا قيل، بل نسأل: لماذا قيل بالإنجليزية؟

قد يبدو الأمر عابرًا، لكنه ليس بلا دلالة. في لحظةٍ ما، أمام مشاعر معقّدة أو جارحة أو مربكة، ننسحب من لغتنا الأم، ونتكلم بلغة مُستعارة. ليس لأننا لا نملك مفردات عربية، بل لأن شيئًا في داخلنا يطلب مسافة، أو حماية، أو قناعًا لغويًا يخفّف حدة الانكشاف.

تقول الباحثة جانِت بيرس في دراسة عن التعبير العاطفي باللغات الثانية إن استخدام لغة غير الأم عند الحديث عن مشاعر مؤلمة أو حميميةيمنح المتكلم نوعًا من الانفصال العاطفي المؤقت. اللغة الأجنبية تصبح كأنها غرفة زجاجية: ترى ما يحدث، لكن لا تشعر به بنفس القدر. لهذا، يلجأ كثيرون للإنجليزية، لا لأنهم يتقنونها أكثر، بل لأنها لا تجرحهم بنفس السرعة.

أحدهم كتب يومًا: ”عندما أقول أحبك أشعر أني في مواجهة مصيرية، وعندما أقول I love you، يمكنني أن أبتسم.“
الفرق ليس في المعنى، بل في الجذر. الكلمات العربية تُشبه تربةً دفنت فيها جذورك، وكلما حفرت فيها حفرت فيك. أما الإنجليزية، فهي تربة مؤقتة: تمسك المعنى دون أن تجرحك بالخلفية.

لكن المسألة ليست فقط عاطفية. هناك أيضًا ما يسميه باحثو علم النفس اللغوي التهجين التعبيري — حين تُنتج اللغات المختلطة أنماطًا جديدة من التعبير لا تنتمي بالكامل إلى أي لغة، بل إلى التجربة نفسها. فمن نشأ يستقبل الأغاني والأفلام والاعترافات الأولى بالإنجليزية، سيجد أن جهازه الشعوري مشفّر بمفردات تلك اللغة، لا لأنه أنكر لغته الأم، بل لأن ذاكرة شعوره نُسخت بها.

فكّر في جملة: أذكر صديقة كانت، في أصعب أوقاتها، تكتب على هوامش دفاترها: “He left. I knew he would.” ثم تعود إلى العربية في المتن: ”لكني لا أعرف ماذا أفعل بهذا الفراغ.“ لم يكن فعل التبديل بين اللغتين غريبًا، بل دقيقًا ككيمياء. الإنجليزية كانت للمواجهة، والعربية للتفسير.

ربما لهذا يبدو التعبير بالإنجليزية أكثر قدرة أحيانًا على تلخيص الانفعال، لا لأنه أفصح، بل لأنه محمّل بصور جاهزة من الثقافة البصرية الغربية: مشاهد السينما، نبرة الممثل، موسيقى الخلفية. كأن العبارة لا تُقال فقط، بل تَستدعي معها مشهدًا كاملًا.

العربية، خاصة الفصحى، محمّلة بجلالٍ وتقاليد لغوية تجعلها أحيانًا غير صالحة للعطب العاطفي السريع. عندما تقول أنا موجوع بالعربية، فإنك تضع نفسك في سياق تراثي طويل، شعريّ غالبًا. أما حين تقول I’m hurt، فأنت لا تطلب بلاغة، بل مواساة.

وقد تُصبح الإنجليزية وسيلة للخروج من السياق الاجتماعي. أحيانًا، لا نريد لأهلنا أو أصدقائنا أن يفهموا كل ما نقوله، أو نحتاج مساحة للبوح دون محاكمة. الإنجليزية تمنح هذه المساحة، كأنها لغة لا تملك نفس الرقابة المجتمعية التي تفرضها الفصحى أو العامية. هي، بهذا المعنى، ليست لغة أقرب إلينا، بل لغة بعيدة بما يكفي لنقول من خلالها ما لا نقول.

العربية ليست عاجزة عن التعبير. بالعكس، إنها الأوسع. لكنها ثقيلة لأننا نعرفها جيدًا، ولأنها تعرفنا أكثر مما نرغب أحيانًا. لا نلجأ للإنجليزية لأننا فقدنا صلتنا بالعربية، بل لأننا لا نحتمل شدة الصلة.

إنها مفارقة: نحتاج أحيانًا إلى لغة أخرى حتى نفهم ما نشعر به بلغتنا!

شارك هذا الـمقال