⁠العاشرة مساءً
٥٤٠ كلمة

الاقتراب من شخص غريب في مكان عام، خاصة إذا كان بينكما فارق في الجنس، هو لحظة حساسة. تتوقف على أكثر من مجرد ما ستقوله. هي شبكة معقّدة من الإشارات غير اللفظية، والقراءة السريعة للموقف، ومعرفة أين يبدأ الفضول وأين تنتهي المساحة الآمنة.

الخطأ الشائع أن يُختزل الأمر في ”الثقة بالنفس“. لكن علم النفس الاجتماعي يوضح أن العامل الأهم هو إدراك السياق: التوقيت، لغة الجسد، والمسافة الاجتماعية.

في المقهى، مثلاً، هناك قواعد غير مكتوبة. الناس تأتي لتقرأ، لتعمل، لتلتقي، أو لتجلس مع نفسها. قبل أي خطوة، عليك أن تلاحظ:

  • هل هي منخرطة بعمق في شيء (كتاب، شاشة، مكالمة)؟

  • هل ترفع نظرها بين الحين والآخر لتتأمل المكان؟

  • هل هناك مؤشرات على استعدادها للتواصل، مثل ابتسامة عابرة أو تلاقي العيون أكثر من مرة؟

علم التواصل غير اللفظي يقول إن الإشارات المتكررة والمفتوحة (تلاقي النظرات، استقامة الجذع نحوك، إيماءات الرأس الصغيرة) تزيد من احتمالية الترحيب بالاقتراب. أما الإشارات المغلقة (سماعات في الأذن، ذراعان متشابكتان، انحناء الرأس نحو الداخل) فهي غالبًا دعوة لترك المساحة كما هي.

في الفلسفة اليابانية، هناك مبدأ ma — المسافة أو الفراغ الذي يعطي معنى للتفاعل. الاقتراب الناجح يبدأ باحترام هذا الفراغ. بمعنى أن أول جسر تبنيه ليس بالكلمات، بل بالاعتراف بأن للطرف الآخر الحق في أن يرفض أو يقبل قبل أن تقترب أصلًا. هذا الوعي يحميك من أسوأ خطأ: أن تبدأ الحديث وكأنك تقتحم، لا وكأنك تعرض فرصة.

حين ترى أن اللحظة مناسبة، ابدأ من الحافة، لا من المركز. الافتتاحية ليست مديحًا شكليًا ولا سؤالًا شخصيًا. اختر جملة ترتبط بالسياق أو المكان: تعليق عن كتاب تقرأه هي على الطاولة، سؤال عن شيء في المقهى (لوحة على الجدار، نوع القهوة)، أو حتى ملاحظة صغيرة عن الجو العام. هكذا تفتح الباب على محادثة يمكن أن تكون عامة في البداية، قبل أن تتحول إلى خاصة إذا وجدت تجاوبًا.

علم النفس التفاعلي يسمي هذا low-stakes opening — افتتاح منخفض المخاطرة، لا يضع الطرف الآخر تحت ضغط الرد العاطفي من اللحظة الأولى.

بعد الافتتاح، يأتي الجزء الذي يميّز ”المحاولة الأنيقة“ عن أي اقتراب آخر: الإنصات الصادق. البرنس الاجتماعي لا يقترب ليسرد عن نفسه، بل ليكتشف الآخر. يحافظ على تواصل بصري متوازن، يترك فواصل طبيعية في الكلام، ويستجيب لما تقوله، لا لما خطط أن يقوله سلفًا.

في بحث من جامعة هارفارد حول الجاذبية في التفاعلات الأولى، وُجد أن الأشخاص الذين يطرحون أسئلة متابعة (follow-up questions)— أي أسئلة تُبنى على ما قاله الطرف الآخر — يُقيَّمون على أنهم أكثر جاذبية اجتماعيًا. ليس لأنهم فضوليون فقط، بل لأنهم يُشعرون الآخر بأن كلامه مهم.

وأهم من كل ذلك: الخروج الكريم. إذا شعرت أنها ليست مهتمة، أو أن إجاباتها قصيرة، أو أن جسدها يعود للوضعية المغلقة، انسحب بلطف. جملة مثل: ”سعيد بلقائك، أتمنى لك وقتًا ممتعًا“ تكفي. أنت لا ”تفشل“، أنت فقط تحترم أن اللحظة ليست مناسبة — وهذه في حد ذاتها علامة نضج.

أما إذا كان هناك تجاوب، فيمكنك إنهاء اللقاء الأول بعرض طبيعي: ”كان الحديث ممتعًا، هل ترغبين أن نكمله مرة أخرى هنا أو في مكان آخر؟“ لا طلب مفاجئ لرقم هاتف، ولا ضغط، بل دعوة مفتوحة.

الاقتراب في المقهى أو المكان العام، إذن، ليس مغامرة عاطفية بقدر ما هو تمرين على الوعي الاجتماعي. أن ترى الآخر بوضوح، أن تزن المسافة، أن تفتح نافذة صغيرة وتتركه يقرر إن كان يريد أن يطل منها. وحين تبني هذا الجسر على الاحترام، حتى لو لم يتحول إلى علاقة، تظل قد مررت في حياته مرورًا لطيفًا، ودربت لديك عضلات الرفض والمحاولة.

شارك هذا الـمقال