كنت أبحث عن محفظتي الشخصية، لونها أحمر داكن. أظن أنني تركتها على الطاولة، أو على المكتب، أو ربما في الجيب الخلفي للبنطلون… لا أذكر. فتّشت كل شيء كما يفتّش المستعجل: بسرعة، وبعصبية، وبقليل من الأمل. ثم دخلت أمي. لم تسأل كثيرًا، لم تفتّش بعنف، مشت كأنها تعرف الطريق. مدت يدها، تحت المخدة — مخدتي — وأخرجت المحفظة.
قالت: ”كانت هنا من الأول“.
وأكملت يومها، كأن شيئًا لم يكن.
كلما ضاع شيء في البيت، تكون أمي هي من تجده. لا ضجيج، لا نظريات. فقط تدور قليلًا، ثم تعثر عليه. في البداية كنت أضحك وأقول: ”حظ“، أو ”قلب الأم“. وصلت حتى لنظرية المؤامرة: الذي يخبئ شيئًا هو الذي يجده! لكن كل تكرار كان يضعف هذا التفسير، ويجعل سؤالًا بسيطًا يلحّ: لماذا هي بالذات التي تعرف؟
في عام 2023، نشرت إلينور إيدلمان مراجعة علمية موسعة عن التغيرات الإدراكية المصاحبة للأمومة. وجدت أن دماغ الأم، خاصة في منطقة تُدعى الحُصين – وهي مسؤولة عن الذاكرة المكانية – يعيد تشكيل نفسه بعد الولادة. ليس بشكل عابر، بل بإعادة توصيلات عميقة تجعل الأم أكثر قدرة على تتبع التفاصيل الصغيرة في البيئة من حولها.
هذا لا يعني أن الأم تكتسب ”قدرة خارقة“، بل أن تجربتها اليومية – ما تراه، ما تلاحظه، ما تُعيد ترتيبه ألف مرة – تصقل ذاكرتها ببطء، وتخلق نوعًا من الخريطة الداخلية للبيت، لا يملكها أحد سواها.
هذه الخريطة الرهيبة لا تشمل فقط الأماكن، بل الأشخاص، عاداتهم، إيقاع يومهم، طريقة تعاملهم مع الأغراض.
الأم تعرف أن غرضًا ما ”اختفى“، لا لأنه غير مرئي، بل لأنه ليس في مكانه المعتاد. تعرف أن شيئًا ”غريبًا“ حدث، لأن الكرسي تغيّر موقعه نصف درجة. تعرف أن ابنها مرّ من هنا، لا لأنه أخبرها، بل لأن الموبايل وُضع على الطرف الأيسر من الطاولة لا على اليمين.
الخريطة ليست صامتة. إنها تتكلم معها يوميًا. ترشدها، تذكّرها، تنبّهها حين يختلّ شيء بسيط. ولهذا، حين تضيع الأشياء، لا تبدأ من الصفر. بل تبدأ من الخريطة.
في عام 2006، أجرت الباحثتان غالاغر وويليامز تجربة على فئران أنجبت حديثًا، ووجدتا أنها تؤدي أفضل في اختبارات الذاكرة المكانية من تلك التي لم تخض تجربة الأمومة. الدماغ، كما يبدو، يتغيّر بالتجربة، وليس فقط بالهرمونات.
وهذا ما يجعل المشهد الصغير في غرفتي يبدو، بعد التفكير، أقل بساطة.
أمي لم تكن ”تفتّش“. كانت تفرز الاحتمالات. تستعرض ما تعرفه عن عادتي، وحركتي، والأماكن التي أمرّ بها. كانت، على الأرجح، تعرف أنني لا أرفع المخدة حين أبحث. لم تكن ترى الدفتر فقط. كانت تراني.
وربما لهذا السبب، كما تشرح الباحثة إليزابيث شوفال، ترتبط الأمومة بشيء يسمّى ”الذاكرة المادية“، أي علاقتنا بالأشياء العادية التي نعيش وسطها. في بيوت كثيرة، الأم ليست فقط من تنظّم المكان، بل من تفهمه. تعرف أن الشاحن ”الأصلي“ في الدرج الثاني، وأن المقصّ في علبة النسكافيه القديمة، وأن الريموت سقط خلف الكنبة لأن أحدهم كان مستعجلًا في تغيير القناة.
ليست هذه معرفة سحرية، ولا موهبة فطرية — وإن كنت أحب أن أراها كذلك — بل خبرة مركّبة، فيها ذاكرة، وملاحظة، ومسؤولية، والكثير من التكرار. ومعها، نوع من اليقظة الذهنية لا يتوفر لنا نحن الذين ننسى أين وضعنا مفاتيحنا قبل خمس دقائق.
كنت أظن أنني أضيع الأشياء لأنني مشغول. لكن ربما، أنا أضيعها لأنها لا تهمّني كفاية.
أمي، على عكس ذلك، ترى في كل غرضٍ جزءًا من حياة أحدٍ في البيت. وكل ما يخصّهم يخصّها. وللمفارقة، يهمها في هذه اللحظة بالذات المحفظة الحمراء أكثر مما تهمني… لأنها تهتم بي أكثر من أي شيء آخر.
تجد الأشياء، نعم. لكنها في الحقيقة تعيد ترتيب الفوضى دون أن تقول إنها فوضى. تعيد الطمأنينة، لا للبيت فقط، بل لما نضيع وننسى ونكفّ عن ملاحظته.
كأنّ الأم، حين تمدّ يدها نحو غرض مفقود، لا تنقذه فقط… بل تنقذ صورتنا عن أنفسنا، كما كنّا نرجو أن نكون: منظمين، منتبهين، حاضرين.