في مرحلة ما من العمر، تتبدّل العلاقة مع الأم دون إعلان. لا بسبب خلاف، ولا بسبب مسافة، بل لأن الزمن نفسه يغيّر اتجاه الحاجة. في الطفولة، كانت الأم هي الملجأ، والسند، والجواب الجاهز. لكننا نكبر. ونبدأ، للمرة الأولى، في رؤية الأم من زاوية مختلفة: لا كامرأة خارقة، بل كإنسانة تتعب، وتخاف، وتحتاج إلى من يصغي لها.
ما يُربك في هذا التبدّل ليس فقط الشعور بالمسؤولية، بل إدراك متأخر بأن الأدوار التي نشأنا عليها لم تكن ثابتة كما ظننا. وأن الأم التي حملتنا طويلًا، قد تحتاج اليوم من يحمل عنها قليلًا من هذا العالم.
في علم النفس العائلي، يُسمى هذا التحوّل ”انعكاس الرعاية“ (Role Reversal)، وهي لحظة يبدأ فيها الأبناء – طوعًا أو بحكم الضرورة – في أداء دور الراعي العاطفي للوالدين. بحسب دراسة نُشرت في The Gerontologist عام 2018، فإن هذا الانعكاس لا يحدث فجأة، بل يتسلّل عبر مواقف بسيطة: مكالمة متكررة من الأم تطلب فيها رأيًا، تكرار سؤال سبق أن طُرح، نبرة خفيفة من التردد، اعتذار غير معتاد عن النسيان أو التعب.
تقول الدراسة إن الأبناء الذين يلحظون هذا التحوّل مبكرًا، ويقبلونه دون مقاومة أو إنكار، يكونون أكثر قدرة على بناء علاقة ناضجة ومستقرة مع أمهاتهم، مقارنة بمن يصرّون على البقاء في دور ”الابن الذي يُخدم“، حتى بعد أن يصبحوا هم الطرف الأقوى نفسيًا أو جسديًا.
في إحدى زياراتي الأخيرة، سألتني أمي إن كنت أستطيع أن أرافقها في موعد طبي ”للاطمئنان فقط“. لم يكن الأمر طارئًا. لكنها لم تطلب مرافقة منذ سنوات. جلستُ في غرفة الانتظار وأنا أفكر: متى تغيّر كل هذا؟ متى أصبحتُ أنا من يحمل الحقيبة؟ من يُطمئن؟ من يتذكر التفاصيل؟ ليس من باب التفاخر، بل من باب الإدراك البسيط: أمي لم تعد فقط ”أمي“. هي الآن امرأة في منتصف السبعين، تراقب الوقت، وتحتاج إلى من يقول لها: أنا معكِ، حتى لو لم تطلبي.
نظرية التعلّق (Attachment Theory) – التي وُضعت أساسًا لفهم علاقة الرُضّع بمقدّمي الرعاية – تُستخدم اليوم في فهم العلاقات المتغيّرة بين البالغين ووالديهم. توضح الأبحاث أن الأشخاص ذوي ”نمط التعلّق الآمن“ أكثر قبولًا لهذا التحوّل، لأنهم لا يشعرون بأن رعايتهم لوالديهم تُهدّد استقلالهم أو تُشوّش صورة الأم القوية التي نشأوا عليها.
في المقابل، من تربّوا في بيئة تتسم بعدم الاستقرار العاطفي أو الضغط النفسي العالي، قد يجدون صعوبة في تقبّل هذا الانعكاس، لأنه يعيد تفعيل مشاعر قديمة تجاه الحاجة، التوقع، والتقصير.
أحد أكثر ما يربكنا في علاقتنا بأمهاتنا بعد البلوغ هو صمت التوقّعات المتبادلة: الأم قد تنتظر دعمًا عاطفيًا لا تُفصح عنه. والابن أو الابنة قد يشعران بثقل لم يُطلب منهما صراحة، لكنهما لا يستطيعان تجاهله. تقول آني رويسمان، الباحثة في علم النفس الأسري، إن ”العلاقة مع الأم بعد البلوغ ليست امتدادًا للطفولة، بل مشروعًا جديدًا من التفاوض العاطفي“، حيث يحتاج كل طرف إلى إعادة تعريف نفسه أمام الآخر، دون كسر المودة أو خيانة الذكرى.
حين نكبر، لا تصبح أمهاتنا أقل أهمية. لكن طريقتهن في التعبير عن الحب، أو في طلبه، تتغيّر. ويصبح من مسؤوليتنا أن نقرأ الإشارات الجديدة: مكالمة بلا سبب، طلب مساعدة صغير، أو حتى لحظة صمت تطول أكثر من اللازم.
أن نلاحظ. أن نبقى على مقربة. أن نعترف بأن الزمن يتحرك في الاتجاهين.
ماما هي التي تحتاجني هذه المرة. وليس لأنني ابنها، بل لأنني الآن، بعد سنوات من التلقّي، أملك شيئًا أعطيه. صوتًا مطمئنًا، حضورًا حقيقيًا، أو حتى مجرد سؤال في وقت مناسب.
ربما لم تكن تطلب. لكنني الآن أرى. وما أراه يستحق أن يُردّ. لا كواجب، بل كعاطفة نضجت… وعادت إلى حضنها الأول.