⁠الخامسة عصرًا
٥٩٣ كلمة

كنت أتصفح الفيسبوك دون تركيز، خُيّل لي أني لمحت جملة ”سيغيّر حياتك للأبد“، فعدت ثانية لأنني لا يمكن أن أُجازف بأن تفوتني أي احتمالية لتغيير حياتي. وجدت أن الجملة من كتابة صديقة عزيزة لوصف ”كورس“ ما، فتحت الصفحة الرئيسية لمعرفة محتواه. الحق يُقال، كان برنامجًا عملاقًا يمتد لعشرات الساعات، وعشرات المحاضرين، وعشرات الآلاف من الجنيهات.

يعدك البرنامج بأنه سيجهّزك لتجربة الزواج كما يجب أن تكون، بداية من فترة التعارف والخطوبة وتقييم الطرف الآخر وصولًا إلى الولادة والرضاعة وما بعدهما. أغلقت الصفحة في خيبة أمل لأنني — للمرة الألف — فشلت في إيجاد الحل السحري لتغيير حياتي للأبد.

لم يكن هذا هو الكورس أو البرنامج الأول من نوعه الذي أرى إعلاناته على الفيسبوك. أرى يوميًا عشرات الكورسات لعشرات الأشياء: العلاقات، الإنجاب، تربية الأطفال، إنفاق الأموال، ادخار الأموال، طهي البطاطس بعشر طرق مختلفة، بل وقابلت دورة تدريبية لتعليم البنات ”الدلع“!

أفكر في كل مرة أرى شيئًا مشابهًا:

هل نحتاج فعلًا كورسات لكل شيء؟

أتفهم كورسات تعليم الصناعات اليدوية والعلوم مثلًا، فهذه أشياء لها خطوات محددة ثابتة تحتاج خبيرًا لنقلها للآخرين، لكن هل نحتاج معلّمًا ليخبرنا كيف نحب وكيف ندلّل أحبابنا؟ هل نحتاج لتعلّم كل خطوة في الحياة بمنهجية ثابتة؟

التعلّم ضرورة، لكن طرقه تختلف. ليست الكورسات السبيل الوحيد، خصوصًا إذا تعلق الأمر بالعلاقات الإنسانية. جزء من تجربة الحياة ومتعتها هو الخطأ، وتعلّم الدروس بالتجربة العملية.

لا يمكنك الزعم بأنك اختبرت الحب فعلًا وعرفته إذا لم تُخطئ وينكسر قلبك ويلتئم وتحاول من جديد، وتنضج مع شريكك وتكتشفان سويًا كل يوم طريقة جديدة للتواصل بينكما، وتتبينان الأوجه المختلفة للحب في كل مرحلة. وإذا كنت أبًا أو أمًا فجزء من متعة التجربة أن تكبر مع أطفالك، وتتعلم معهم، وتكتشف الحياة بعيونهم.

وإذا كنت خائفًا من خوض التجربة دون أي إرشادات مسبقة، فيمكن دائمًا فعل ما فعله الناس عبر التاريخ: التواصل الإنساني، وسماع حكايات الناس عن تجاربهم الخاصة. بالطبع لا يمكن استنساخ تجارب الآخرين كما هي لأننا نختلف، ومهما تشابهنا فلا يمكن أن نتطابق، ولكن على الأقل يساعدك هذا على استكشاف مساحات أوسع من الحياة لم تكن لتقدر على رؤيتها وحيدًا.

وفي الوقت ذاته تستكشفها بطريقة حميمية لا تفتقد الدفء الإنساني، تستمع لإنسان آخر تعرف أنه يشاركك خبرته من باب المحبة والمودة، وليس لأنك ساعدته على دفع أقساطه الشهرية.

أما الكنز الذي نملكه فعلًا في هذا العصر — ولو عرفه السابقون لقاتلونا عليه بالسيوف — فهو سهولة الوصول للمعلومة مهما كانت. كل ما يتطلبه الأمر جهاز متصل بالإنترنت ومعرفة كيفية استخدام جوجل في البحث. سنجد آلاف المصادر للقراءة عن أي موضوع في الدنيا مهما كان. ربما يصل بنا البحث إلى كتاب أو مقال متخصص، وربما يفتح لنا عشرات المواضيع والأفكار الجانبية، ونتعلم في طريقنا شيئًا جديدًا لم نكن نبحث عنه أصلًا.

وربما يحيلنا إلى مصادر بلغات أخرى نرى فيها ما يشغلنا وقد شغل آخرين في الناحية الأخرى من العالم، ونعرف إجابة جديدة من ثقافة مختلفة بعيدة. لا يمكنك أبدًا أن تخرج خاسرًا من عملية البحث، فلو لم تخرج بأي معلومة أو ملاحظة أو حتى تركيبة لغوية جديدة، فعلى الأقل ازدادت ثقتك في قدرتك على الوصول للمعلومة والتعلّم.

بالإضافة إلى أن البحث، والقراءة، وسماع حكايات الآخرين، والتورط مع حكاياتهم عاطفيًا والتفاعل معها، وخوض التجارب، والخطأ، والصدمات، وكل مجهود نستثمره في الوصول للمعلومة، وكل خطوة نخطوها بأنفسنا ومع أحبابنا، كل هذا يجعل نسيان ما تعلمناه أصعب — يبقى في ذاكرتنا للأبد.

على العكس من الحصول على المعلومة على الجاهز وسماعها في محاضرة أو أي وسيط مباشر آخر، غالبًا ما ننساها بمجرد الانتهاء منها.

حتى لو قصرنا، وأخطأنا، ولم يسر كل شيء بمثالية، فسيظل خوض الحياة بأنفسنا وتذوق حلوها ومرّها، أجمل وأقرب وألذ من مشاهدة الحياة من بعد، والتسلح بالكتالوجات الجاهزة قبل كل خطوة فيها.

تعلّم آدم بالتجربة والخطأ، وتطلّب الأمر جريمة قتل وغرابًا لتتعلم البشرية.

لم نُخلق في هذا العالم للكورسات.

شارك هذا الـمقال