نحن في حالة كتابة دائمة. وما نسطره هو حياتنا. نكتب قصصنا ليعرفنا العالم.
نختار من هذه القصص ما نظن أنه ممتع أو ملهم أو مثير للاهتمام. نحذف الفصول الفاترة، ونخفي المشاهد المحرجة، ونُجمّل اللغة لتناسب الذائقة.
لكن ما الذي يحدث إذا قررت أن تكتب قصتك لنفسك؟ لا على هيئة كتاب تنوي نشره، ولا منشورًا لوسائل التواصل، ولا حتى رسالة مغلقة. بل أن تكتبها لك وحدك. لتقرأها أنت. لتراها لا كما أردت أن تكون، بل كما كنت فعلا.
من المسرح إلى الغرفة المغلقة
يتحدث عالم الاجتماع إرفنغ غوفمان عن ”تقديم الذات في الحياة اليومية“، ويقارن كل تفاعل اجتماعي بمسرحية، يؤدي فيها المرء دورًا أمام جمهور معين، بلغة معينة، وملابس معينة، وتوقيت محسوب. لكن غوفمان نفسه يُفرّق بين الواجهة المسرحية والكواليس، حيث يعود الشخص إلى ذاته دون تمثيل. أن تكتب قصتك لنفسك، هو أن تدخل الكواليس. أن تتوقف عن اللعب أمام الكاميرا، وتبدأ في تنظيف الذاكرة.
لا تبدأ من الأعلى، بل من حيث يؤلم
حين يكتب المرء للعرض، يبدأ من القمم: من الإنجاز، من اللحظات المفصلية. لكن حين تكتب لنفسك، فلن يخيفك الاعتراف بأن الفصول الأكثر تشكيلًا… كانت في القاع. في كتابه On Writing، يقول ستيفن كينغ:
”كل كاتب يحمل جرحًا، وكل كتابة جيدة تبدأ من مكان قريب من هذا الجرح.“
ابدأ من حيث لا تحب أن تبدأ: من الحرج، من الحماقة، من الحب الأول الذي لم تفهمه، من الرسوب، من الشكّ. هذه ليست ضعفًا… بل مفاتيحٌ لفهم الحكاية.
ما بين الذكرى والتأويل
حين تكتب عن نفسك، لا تسرد فقط ما حدث. بل تراقب كيف كنت تفكر حينها، وما الذي كنت تظنه عن نفسك، وما الذي تغيّر، لا في الواقع، بل فيك. ليست الكتابة الذاتية تحقيقًا بوليسيًا للوقائع، بل محاولة لتأويل ما لم يُفهم في وقته. وقد تكتشف أن بعض اختياراتك التي كنت تندم عليها… كانت محاولات بائسة للحب. وأن بعض قسوتك كانت سترًا لخوف شديد لم تكن تعرف اسمه.
من الوعي إلى الجسد… اكتب بالتفاصيل
حين تكتب، لا تحصر نفسك في الأفكار المجردة. صف البيت، الرائحة، الحذاء الذي كنت ترتديه في المقابلة. صف كيف كنت تشعر في جسدك، لا فقط في رأسك. لأن الذاكرة ليست عقلًا فقط، بل جسدٌ تَذكّر. في أحد نصوصه عن الطفولة، يكتب محمود درويش:
”أتذكّر أنني كنت أمشي على رؤوس أصابعي… كأن الأرض ليست لي.“
وهذه التفاصيل الصغيرة، لا تُنسى — لأنها تُنصت.
لماذا تفعل هذا أصلاً؟
لأنك تتغير. ولأنك في تغيرك، تنسى كيف كنت. وحين تنسى، تُصبح حياتك مجرد أحداث متناثرة. أما حين تكتبها… تصبح قصة لها معنى، ومسار، ونغمة. يقول الفيلسوف بول ريكور إن الإنسان لا يفهم نفسه بوصفه كائنًا بيولوجيًا، بل بوصفه سردًا يحاول أن يربط بين أجزائه المتناثرة. وأن سرد القصة هو أحد أهم وسائل ”الهوية السردية“ — أي أن تعرف من أنت، ليس بحكم الجنسية أو الاسم أو المهنة، بل بحكم الحكاية التي تربط كل ذلك فيك.
كيف تبدأ فعليًا؟
• لا تنتظر الإلهام، بل وقتًا منتظمًا.
• ابدأ بجملة واحدة صادقة: ”كنت في تلك الفترة خائفًا، وإن لم أعترف.“
• لا تهدف إلى ”شكل أدبي“، بل إلى صوت داخلي صادق.
• لا تعتذر عن شيء. ولا تهاجم نفسك. فقط راقب واكتب.
أن تكتب قصتك الشخصية لتقرأها أنت، لا يعني أن تُمجّد نفسك، ولا أن تكتشف أنك كنت دائمًا على حق. بل أن تمنح لنفسك فرصة لتراك وتعرفك وتطمئن بشأن الطريق الطويل في الحياة. المهم هنا أن نتذكر أن أحدًا لن يقرأ ما تكتبه غيرك.
أنت تكتب فعليًا لتكشف لنفسك العالم بطريقة مختلفة، لا لتثير إعجاب أحد أو شفقته. أنت تفعل ذلك لنفسك.